من طوكيو إلى سيول: أزمة المواد الكيميائية التي هزت سامسونج وأعادت اليابان للواجهة 🔬
في يوليو 2019 انفجرت أزمة خفية في قلب صناعة التكنولوجيا العالمية. اليابان فرضت قيودًا على تصدير ثلاث مواد كيميائية أساسية إلى كوريا الجنوبية، بينها مادة “الفوتورزيست” الحيوية في صناعة أشباه الموصلات. القرار أصاب شركات كبرى مثل سامسونج بالشلل المؤقت، بعدما اكتشفت أن مخزونها من تلك المادة لا يكفي سوى لأسابيع قليلة.
اليابان لم تكن مجرد مورد عادي؛ فهي تسيطر على ما بين 80 و90٪ من سوق الفوتورزيست المستخدم في تقنيات الطباعة بالأشعة فوق البنفسجية القصوى (EUV). تركيبته الكيميائية سرية للغاية، تحتفظ بها شركات قليلة في طوكيو، بسرية تشبه وصفة كوكاكولا. سافر نائب رئيس سامسونج شخصيًا إلى اليابان للتفاوض، وانتهت الأزمة بحل مؤقت، لكنها كشفت عن حقيقة أعمق: أن اليابان لا تزال تمسك بخيوط حيوية في سلسلة التوريد العالمية رغم تراجعها الظاهري.
في الثمانينيات، كانت اليابان إمبراطورية أشباه الموصلات بلا منازع. شركات مثل NEC وToshiba وHitachi وFujitsu وMitsubishi سيطرت على أكثر من نصف السوق العالمي. لكن بعد أربعة عقود، انخفضت الحصة اليابانية إلى نحو 10٪ فقط، بينما صعدت كوريا وتايوان والولايات المتحدة. ومع ذلك، بقيت اليابان متجذرة في المفاصل الحساسة للصناعة، من المواد الكيميائية والسيليكون إلى معدات التصوير والطباعة المتقدمة.
اليابان تسيطر اليوم على 97٪ من سوق مواد الطباعة الخاصة بتقنيات 7 نانومتر أو أقل، وشركتان منها تنتجان أكثر من نصف الويفرات السيليكونية في العالم. أما Tokyo Electron وNikon وCanon فلا تزال ضمن نخبة الشركات المصنعة لمعدات إنتاج الرقائق.
بعد أزمة نقص الرقائق في 2020، أدركت طوكيو أن الاعتماد على الخارج أصبح خطرًا استراتيجيًا. وفي أغسطس 2022، وُلدت شركة Rapidus باتحاد من ثماني شركات يابانية كبرى تشمل Toyota وSony وNTT وNEC وMitsubishi وDenso وSoftBank. الهدف طموح: إنتاج رقائق بدقة 2 نانومتر بحلول 2027. الحكومة اليابانية ضخت 12 مليار دولار دعمًا مباشرًا، مع خطط لزيادة التمويل إلى 18 مليار، فيما انضمت IBM كشريك رئيسي لنقل تقنيتها المتقدمة بعد نجاحها في تطوير شريحة تجريبية عام 2021.
في ديسمبر 2024 تم تركيب أول آلة طباعة EUV في اليابان، وفي أبريل 2025 بدأ التشغيل التجريبي لاختبارات الإنتاج. الخطة المعلنة تستهدف الوصول إلى إنتاج تجاري واسع عام 2027. لكن Rapidus لا تسير على خطى TSMC أو Samsung، بل تتبع نموذجًا مختلفًا يعتمد على “الإنتاج المخصص” بدل الإنتاج الكمي.
فبدل تصنيع ملايين الشرائح المتطابقة، تعمل Rapidus على تطوير كل شريحة بشكل مستقل، وتجمع بيانات ضخمة تُحلَّل بالذكاء الاصطناعي لتحسين الجودة الفورية. هذا النموذج يمنحها مرونة عالية في الكميات الصغيرة وسرعة غير مسبوقة في اكتشاف الأخطاء، ما يجعلها أكثر ملاءمة لسوق الرقائق المتخصصة للذكاء الاصطناعي والسيارات الذاتية القيادة ومراكز البيانات.
تسريبات هندسية تشير إلى أن رقائق Rapidus تتمتع بكثافة ترانزستورات تبلغ 237 مليون لكل مليمتر مربع، مماثلة لأحدث رقائق TSMC، بل وأعلى من نظيرات Intel. الشركة تتوقع تحقيق نسبة نجاح في التصنيع تصل إلى 50٪ من اليوم الأول و90٪ خلال عام واحد، وهي أرقام طموحة تتجاوز منافسيها.
الحكومة اليابانية تراهن على استثمار يتجاوز 65 مليار دولار حتى عام 2030 لإحياء الصناعة وجذب الشركات الأجنبية. مشروع TSMC في اليابان أصبح مختبرًا عمليًا لنقل المهارات والمعرفة إلى جيل جديد من المهندسين اليابانيين. في الوقت نفسه، تعمل Canon على تطوير آلات طباعة متقدمة تنافس ASML الهولندية، رغم الفارق التكنولوجي الكبير.
اليابان تعيد الآن تكرار ما فعلته في السبعينيات: نهضة هادئة تبدأ من المواد والمعدات لتصل إلى الرقائق ذات 2 نانومتر. لكنها هذه المرة لا تكتفي بالمنافسة، بل تسعى لتأمين استقلالها التكنولوجي في عالم باتت فيه الإلكترونيات الدقيقة سلاحًا استراتيجيًا بامتياز



